=أهوال يوم القيامة
الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازي لها بما عملت، سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى كل من دعا بدعوته، واستقام على شرعه، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
عباد الله: يقول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))[لقمان:33-34].
عباد الله: يأمرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآية وأمثالها بتقواه، بتقواه التي جماعها اجتناب ما نهى الله عنه ورسوله، وفعل ما يستطاع مما أمر الله به ورسوله، انطلاقاً من قوله عليه الصلاة والسلام: [ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ].
يأمرنا تعالى بتقواه، مقدمة بين يدي الأمر بالخوف من أهوال وأفزاع وشدائد يوم القيامة، يأمرنا بتقواه بين يدي ذلكم بحاجة تقدم التقوى، في الفعل والترتيب بين يدي ذلكم اليوم العظيم فيقول: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ))[لقمان:33]، (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ))[الحج:1]، يأمرنا تعالى بذلكم ويذكرنا، يذكرنا بأن نتذكر ونتأمل فيما أمامنا، وما سيواجهنا به، وما سيواجهنا بعد الانتقال من هذه الدنيا المحدودة، يأمرنا بتذكر ما سيواجهنا بعد النقلة من هذه الدنيا، ابتداءً بتذكر يوم القيامة، ابتداء بتذكر مبادئه وأوائله، بتذكر مبادئه يوم أن يأتي الإنسان ما كتبه الله تعالى عليه يوم أن يعاين الإنسان أمارات ما كتبه الله تعالى عليه (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))[ق:19]، (( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ))[النساء:78].
يأمرنا بتذكر تلكم الحالة، عندما تنزل بأحدنا.. عندما تبلغ الروح الحلقوم، ويقول من حول المحتضر من راق، ويظن أنه الفراق، وحوله في هذه الحالة من حوله، من صبية ونساء وأحبة وربما وشيوخ ستستل روحه من أكباده استلال الشوك من الشعر، وتنتهي العلامة الجسمية، والدور الدنيوي، ويدرج في كفنه، ويوضع في صدر من الأرض على قدر جسمه، يوضع في زنزانة يستوي فيها -ظاهراً- الكبير والصغير، والمأمور والأمير، والغني والفقير، وحوله في هذه الحالة أيضاً من حوله، حوله إن كان خيراً، ملتزماً لأوامر الله، حوله ملائكة رحمة، تباشره التحايا، لا تحزن، أبشر بالذي يسرك (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ))[الفجر:27-30].
أو ملائكة عذاب والعياذ بالله، ملائكة عذاب غلاظ شداد، يباشره بضم قبره عليه، وبضربه بمرزبة من حديد، يصيح منها فيصعق منها صعقاً، يسمعه كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه الإنسان لصعق.
تذكروا أيها الإخوة ذلكم، وأن بهذا يدخل المرء المرحلة الوسطى، من مراحل حياته المديدة، الحياة الدنيا التي هي محل الزرع والتحضير والتهيئة، والثانية التي هي حياة القبر، حياة البرزخ، تذكروا ذلكم وأن الأمر ليس كما يشاهد ولكن القبر كما جاء بمجموع النصوص ومدلولاتها، إما حفرة من حفر النار والعياذ بالله، وإما روضة من رياض الجنة، فقد وردت النصوص، بأن المسلم الخير الملتزم يمد له في قبره مد بصره، ويفرش من الجنة ليأتيه من روحها.
تذكروا أيها الإخوة، ذلكم بأن المرء إذا خرج من هذه الدنيا يخرج منها بالحالة التي خرج عليها أولاً، كيوم أن ولدته أمه، يخرج منها كما بدأ، (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ))[الأنعام:94].
تذكروا حين تشقق تلكم الحفر عن أهلها، حين ينفخ في الصور، حين يأذن الحق تعالى بخروجهم فيحيون، وتشقق عنهم الأرض، كما قال تعالى: (( كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ))[المعارج:43-44]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: [ أنهم يخرجون حفاة عراة غرلاً، يموج بعضهم في بعض، تدنوا منهم الشمس، ويلجمهم العرق على قدر أعمالهم ]، يلتمسونالراحة من هول الموقف بطلب الشفاعة من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، يردون على الحوض، ويصرف عنه أناس بظمئهم، ومحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يقول كما أثر عنه: [ يا رب، إن هؤلاء من أمتك، فيقول تعالى: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ].
ويعظم الأمر ويشتد الخطب بمرورهم على جسر جهنم على الصراط، تجري بهم أعمالهم، فمكردس مخدوش، وناج مسلم، ويأتي ويتحقق تأويل قول الله جل وعلا: (( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ))[مريم:71-72].
ويأتي بعد دور المحاصة، والمقاصة، يأتي دور رفع الضعفاء رءوسهم وطأطأة الظالمين لرءوسهم، ليأتي دور المحاصة والمقاصة بين يدي أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الذي يقول: (( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ))[الأنبياء:47]، ويقتص الحق تعالى للمظلومين من الظالمين، وللمخذولين من الخاذلين، ويتلاشى دور الوساطة ودور الرشا، ودور التسلط ودور ودور.. ويكون الحكم لله، لله جل وعلا.
وينقسم الناس بعد أيها الإخوة، ينقسم الناس قسمين، وفوداً على الله، (( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ))[الأحزاب:44]، وقسماً (( يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ))[الطور:13-14]، (( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ))[مريم:85] وفداً يستقبلون بالخير (( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ))[مريم:86]، وقسماً آخر يدعو إلى النار دعاء، ويكفف ويذكر بعاقبة تجنبه للحق، يقول تعالى: (( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ))[الروم:14-16].
فاتقوا الله أيها الإخوة المؤمنون: وعودوا بالتفكير إلى تلكم المراحل، عودوا وتذكروها تذكروا المراحل التي ستمرون بها، والمواقف المضنية التي أمامكم، توقفوا واطلبوا ما يعين على المخرج منها، (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ))[الطلاق:2]، (( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[الزمر:61].
تذكروا أيها الإخوة تلكم المواقف، فإن تذكرها بحق وصدق يعظ القلوب، ويوقظ النفوس، ويزيد في إيمانها، ويقينها، وقدرها، واحتسابها، بل ومراقبتها لله الذي قال بعد أن قال: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا ))[لقمان:33] إلى أن قال: (( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))[لقمان:34]
أقول قولي هذا، وأسأل الله بأسمائه الحسنى، أن يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، نسأله أن يرحمنا في كل موقف من مواقف حياتنا، وحشرنا ونشرنا، نسأله أن يعاملنا بعفوه، وأن يتولانا فيمن تولاه، وأن يجعل آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبه ربنا ويرضاه، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم نلقاه، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى كل من دعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: (( اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ))[آل عمران:102-103].
إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، الكيس أي: الفطن الحازم، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلمون: إن الذكرى بهذه الأمور لتزيد في الإيمان، وإنني أذكر نفسي وأذكركم بأن لا تهملوا ذكر الموت، وما بعد الموت، يقول عليه الصلاة والسلام: [ أكثروا ذكر هادم اللذات ] الموت، ويقول: [ ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عن رأسه ].
تذكروا ذلكم تذكراً يدعوكم إلى الاستعداد والتهيؤ، وكأنكم تفارقون الدنيا في حالة تفكيركم باستعدادكم واعتمادكم بجانب ذلك على فضل الله، وسعته ورحمته فتذكروا ذلكم وتذكروا بما ستنتقلون به إذا انتقلتم، بماذا سيواجهكم في القبر وبعد القبر.
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى القبر مغلول القلادة أزرقا
أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد من القبر انتهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
فأعدوا العدة أيها الإخوان، أعدوا العدة لتكونوا ممن إذا نزلت به نازلة الموت عظم حسن ظنه بالله، وفرح واستبشر وقال: ما قاله نبيه عليه الصلاة والسلام في المحتضر: [ اللهم في الرفيق الأعلى ].
اتقوا الله عباد الله، أيها المسلمون، لقد كثرة في هذه الآونة الإخبارات في الصحف وغيرها عن الموتى بشكل يجعل ذلكم من النعي الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب أن بعض الإخبارات والتعازي يقطع أو يكاد يقطع للمتوفى بالجنة، فتكتب الآية الكريمة أمام التعزية: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ))[الفجر:27]، كأن الخاطب يخاطب الميت، ويكتب المرحوم، وعقيدة أهل السنة والجماعة ألا يقطع لأحد من القبلة من المسلمين بجنة ولا نار، مع اعتقادهم أن المسلم إذا مات على إسلامه، ولم يرتكب مكفراً أنه من أهل الجنة سواء دخلها لأول وهلة، أو دخل النار تطهيراً لما ارتكبه من كبائر، ولكن لا يجوز أن نشهد أو أن نقول ما يوحي بالشهادة لمن مات من المسلمين، بأنه من أهل الجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالعشرة المبشرين بالجنة، ومنهم الخلفاء الأربعة، وكثابت بن قيس بن شماس .
فيا أيها الإخوة: التزموا آداب عقيدتكم، ولا تتدخلوا في علم الله، وفي مغيبات تضر العقيدة، فهذا يكاد يكون دخولاً في أمر المغيب، ومنه كلمة فلان المرحوم، الجملة في لفظها خبرية، وإن أولها بعض الناس بأنها بمعنى الطلب، لكن تأويلها بمعنى الطلب يوهم أنها إخبارية.
فيا أيها الإخوة المسلمون: قولوا رحم الله فلان، غفر الله لفلان، أسكن الله فلان فسيح جناته، ولا تدخلوا فيما يضر بعقيدتكم، جاء أحد الصحابة لما استشهد مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، استشهد في معركة قائدها محمد بن عبد الله، إسلامية بحتة، فقال: استشهد مولاك فلان، قال: لا، وفي النار في ...... فلا ندري يا إخوة من يكون من أهل الجنة ومن يكون من أهل النار، إلا أننا نرجو للمحسنين من أمة محمد، ونخاف على المسيئين.
نسأل الله أن يغفر لنا، ولإخواننا من الذين سبقونا بالإيمان، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا.
(( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.